خواطر حول رواية الفقراء لدوستويفسكي
خواطر حول رواية
الفقراء لدوستويفسكي
شرعت في قرائتي لرواية "الفقراء" تماما بعد اربعة أيام من انتهائي من درجة البكالريوس و قد وجدت في رجوعي لقراءة الروايات بعد انقطاع دام طيلة شهر الاختبرات ملاذا و أنسًا. الفقراء أو المساكين رواية دوستوفيسكي الأولي و تدور أحداثها في ييتسبرج بروسيا في القرن التاسع عشر تحديدًا بداية من شهر إبريل في سنة 1844 أو 1845 نهاية بآخر شهر سبتمبر من نفس السنة. فكرتها تبدو بسيطة للغاية إلي حد الملل و هذا ما دفعني عنها لسنين، و لكنها حينما وقعت بين يدي عندما كنت أنتقي كتباً جديدة من مكتبتي المتواضعة لأقرأها في اجازة الصيف قلت و لم لا؟ خاصة ان ترجمات سامي الدروبي تستهويني و يسهل علي قرائتها في معظم الأحيان. لن أمضي و أقول ان الرواية شيقة للغاية علي غرار فكرتها فستكون هذه مبالغة شديدة مني و لكن هذه الرواية بالذات أخذتني في رحلة حقيقية و مؤلمة جدًا لعوالم شخصياتها. ماكار و فارفارا يسكنان في بنايتين متجاورتين، و تنشأ بينهما علاقة محبة و صداقة معقدة. يتراسل الإثنان فنتعرف علي كل شئ عن حياتهم و ماضيها و حاضرها من خلال تلك الرسائل التي بفعل معجزة او بمعض صدفة صارت بطريقة ما بين أيدينا كقراء. دائما ما تعجبني الروايات الرسائلية لسببين: الأول أن في قراءة مراسلات و جوابات أشخاص آخرون تجسس و هو لعامل تشويق كبير. و العامل الثاني هو أن الرسائل التي تدور بين شخصين لا يفهمها كلية غيرهما و لهذا فهناك الكثير من علامات الاستفهام التي تدفع القارء للتفكير و الاستنباط، و أحيانا التوصل الي استنتاج أو يقين، فيضطر القارئ أن يملئ الفراغات بنفسه حتي تكتمل القصة في مخيلته. أظن أن هنا بالظبط يكمن جمال الروايةو حميميتها.
الفقراء تحكي عن هذان الأثنان وعن صعوبة حياتهما التي تشتد عليهم كل يوم أكثر
فأكثر، و لا تترك لهم متسع سوي السعي الدائم إلي البقاء. ماكار و فارفارا بالكاد
لديهم ما يكفيهم و يسترهم و أحيانا يصل بهم الأمر للمذلة و الهوان، ثم التودد
للآخرين من أجل المال أو العمل و هنا بالأخص أعني السيد ماكار الذي في أكثر من
موضع يعبر في رسائله لفارفارا عن شعوره بالخوف من أن تطرده سيدة المنزل لتأخرة عن
سداد الإيجار أو أن يسرحه مدير عمله بسبب ثيابه الرثة أو طلته الباهتة. وجدت نفسي
وسط كل هذا أتعاطف بشدة معهم و أحزن لحزنهم ،و يتقطع قلبي لحياتهم المأساوية التي
لا تنفك تزداد بؤسًا. هي رواية مؤلمة و قد سردها ديستويفسكي بتفاصيلها الكبيرة
منها و الدقيقة. فصور لنا روسيا في هذا الوقت في وضعها المخجلة بشوارعها و حارات
الفقراء و بيوتهم و ما يحدث داخلها و كيف كان يمكن لأربع أسر أن يعيشوا في مكان
واحد قذر مجبرين علي تحمل رائحة العطن. صور لنا الفقر كعامل مشترك بين معظم
الشخصيات. هي رواية أقسي ما فيها أنها بعيدة عن الخيال، بل واقعية تمامًا. من كتب
هذه التفاصيل لا بد أنه كان قريبا منها، لو لم يكن عاشها و
اخذها تجربة أولية بحق. بالفعل قد عاش ديستويفسكي طفولته في حي فقير بمدينة موسكو
بمجاورة مشفي بها مرضي من الطبقي الدنيا؛ و لذلك نستطيع أن نقول أنه كان قريبًا من
الفق، و أعطي لنفسه الحق أن يكتب عنه لأنه كان علي علم بحياتهم و مشاكلهم. في
كتابة هذه الرواية أعطي لهم صوتا من خلال تلك الرسائل الوهمية و هيأ لنا طريقة لننظر
في خواطر ماكار و فارفارا. علي لسان ماكار انتقد النخبة من المثقفين و الأرستقراطيين
الذين يكتبون عن الإنسان الفقير من منطلق متعالي و مفتقد عنصر التجربة فيتهمهم
بالتعدي علي إنسانيته المرقعة.
أشد ما أعجبني هو أن مع اقتراب انتهاء
الرواية جاء موقف يخفف من كل هذه المآسي التي كان يعانيها ماكار. موقف تساهل رب
عمله معه، و هو نقيض ما كنا نتوقعه نحن كقراء، فعندما كان يشعر ماكار أنه علي وشك
أن يخسر وظيفته، كان رب عمله يغفر له تقصيره في عمله، و فوق ذلك يعطيه مبلغًا جيدًا
من المال كمساعدة له حينما رأي حالته التي كانت يرثي لها، و لكن هنا يأتي الجانب
المؤلم و هو ان ماكار لم يسعد بالمال علي قدر ما أسعده أشد الإسعاد أن مديره عامله
كإنسان، لم يتقزز منه، و لم يتحاشي ملامسته، و قد شد علي يده ممسكًا بها لبضع ثوان هو يصر في
إعطاءه المال. هذا ما أثلج قلبه و خفف عنه حالته النفسية و الصورة السيئة التي كان
يري نفسه بها، بأنه فقير حقير و غير مستحق.
في الواقع أننا حين نقرأ تلك الروايات نراها بعين
رومانتيكية أدبية خالصة، و لكن علي أرض الواقع، و في معظم الأحيان نتسرع في إصدار
الأحكام علي الفقراء .
الكثير منا و أنا منهم يصدر الحكم علي الفتاة الفقيرة في قرارها الموافقة بزواج
تقليدي ينقذها من فقرها المتقع، و ينهال علي الشاب الفقير الذي تطحنه الدنيا طحنا
باللوم والعتاب لإيجاده مخرجًا أو بالأحري مهربًا من معاناته. لا أعني بكلامي هذا
أن الفرد من الطبقي العاملة الكادحة يمكن أن نسامحه في كل شئ فقط إدراكًا لظروفه و
إلا سادت الفوضي و تمادي الجميع، و لكن الواضح أننا نعاني مشكلة ما في مسألة السماح
بالأخطاء الإنسانية أن تحدث، خاصة عندما تأتي من شخص نحتقره. شخص لم نكون تجاهه إلا
الفتات من الأحترام و التقدير. لكننا لنطمئن ضمائرنا نحدثها بأننا نقدر العامل
الكادح و نحب أن نعطيه الصدقات، لكن إن تطاول هذا العامل أو قصر في عمله أو صرخ في
وسط الشارع أو مات علي قارعة الطريق، سنحرر له محضرًا، سنسرحه من العمل و نأتي بغيره،
سننعته بالمختل و نخشي أن نلمس جسدة الحقير. في قراءة الروايات الواقعية التي
تحاكي يوميات الطبقة الكادحة تتسع مدارك الإنسان خاصة الذي لا يختلط بتلك الطبقة الأجتماعية
بطريقة مباشرة و بشكل مستمر، فيضع نفسه في
مكانهم و ظروفهم، فماذا هو بفاعل؟ وصف الاشتراكي و المفكر الروسي ألكسندر هيرزن الفقراء بأنها “عمل اشتراكي كبير" و هذا أصح ما وصفت به هذه الرواية لأننا نري
فيها الهرم المجتمعي، نري جشع أصحاب رأس المال، نري أن التسلق المجتمعي و الوظيفي مهمة
شبه مستحيلة ليست بالبساطة التي يصفها البعض. نري أيضًا الأدب كعامل مؤثِر و مؤثرفيه،
كيف أن منهم من يري في الأدب رفاهية تخص الميسور حالهم، هؤلاء للأسف من ابتلعهم
اليأس و حولتهم ظروفهم المادية إلي متشككين في فائدة الأدب و في كونه يحاكي
معاناتهم أو لا. كان هذا موقف فارفارا التي تركت القراءة و تبادل الكتب بينها و بين
ماكار الذي علي النقيض كان متمسكًا به و يحاول فهمه حتي آخر لحظة.


Comments
Post a Comment